نظرية التعلم البنائية:
تعتبر نظرية التعلم البنائية (أو التكوينية) من أهم النظريات التي أحدثت ثورة عميقة في الأدبيات التربوية الحديثة خصوصا مع جان بياجي، الذي حاول انطلاقا من دراساته المتميزة في علم النفس الطفل النمائي أن يمدنا بعدة مبادئ ومفاهيم معرفية علمية وحديثة طورت الممارسة التربوية.
- أن النظرية التكوينية تضع النمو كمحدد للتعلم وشرط لحدوثه، طبعا إذا توفرت الشروط البشرية والمادية المناسبة.
كما أنه طبق النتائج المعرفية لعلم النفس النمائي على مشروعه الابستيمي (الابستمولوجيا التكوينية)، ولمقاربة هذه النظرية البنائية في التعلم سننحاول أولا التعرف على أهم المفاهيم المركزية المؤطرة له، ثم أهم مبادئها ثانيا، وبعد ذلك سنتعرف على الأبعاد التطبيقية لهذه النظرية في حقل التربية.
*المفاهيم المركزية لنظرية التعلم البنائية:
- مفهوم التكيف: التعلم هو تكيف عضوية الفرد مع معطيات وخصائص المحيط المادي والاجتماعي عن طريق استدماجها في مقولات وتحويلات وظيفية.
- والتكيف هو غاية عملية الموازنة بين الجهاز العضوي ومختلف حالات الاضطراب واللاإنتظام الموضوعية أو المتوقعة والموجود في الواقع، وذلك من خلال آليتي الاستيعاب والتلاؤم.
- التلاؤم: هو تغيير في استجابات الذات بعد استيعاب معطيات الموقف أو الموضوع باتجاه تحقيق التوازن، وحيث إن الاستيعاب هو إدماج للموضوع في بنيات الذات، والملاءمة هي تلاؤم الذات مع معطيات الموضوع الخارجي.
- مفهوم الموازنة والضبط الذاتي: الضبط الذاتي هو نشاط الذات باتجاه تجاوزا الاضطراب والتوازن هو غاية اتساقه.
- مفهوم السيرورات الاجرائية: إن كل درجات التطور والتجريد في المعرفة وكل أشكال التكيف، تنمو في تلازم جدلي، وتتأسس كلها على قاعدة العمليات الإجرائية أي الأنشطة العملية الملموسة.
- مفهوم التمثل و- الوظيفة الرمزية: التمثل،عند بياجي، ما هو سوى الخريطة المعرفية التي يبنيها الفكر عن عالم الناس والأشياء. وذلك بواسطة الوظيفة الترميزية، كاللغة والتقليد المميز واللعب الرمزي ...
والرمز يتحدد برابط التشابه بين الدال والمدلول؛ والتمثل هو إعادة بناء الموضوع في الفكر بعد أن يكون غائبا.
- مفهوم خطاطات الفعل: الخطاطة هي نموذج سلوكي منظم يمكن استعماله استعمالا قصديا، وتتناسق الخطاطة مع خطاطات أخرى لتشكل أجزاء للفعل، ثم أنساقا جزيئة لسلوك معقد يسمى خطاطة كلية.
- وإن خطاطات الفعل تشكل، كتعلم أولي، ذكاء عمليا هاما، وهو منطلق الفعل العملي الذي يحكم الطور الحسي - الحركي من النمو الذهني.
* مبادئ التعلم في النظرية البنائية:
من أهم مبادئ التعلم في هذه النظرية نذكر:
- التعلم لا ينفصل عن التطور النمائي للعلاقة بين الذات والموضوع (لكل مرحلة خصائص وموارد وأدوات وأساليب...)
- التعلم يقترن باشتغال الذات على الموضوع، وليس باقتناء معارف عنه.
- الاستدلال شرط لبناء المفهوم، حيث المفهوم يربط العناصر والأشياء بعضها ببعض والخطاطة تجمع بين ما هو مشترك وبين الأفعال التي تجري في لحظات مختلفة.
* وعليه فإن المفهوم لا يبنى إلا على أساس استنتاجات استدلالية تستمد مادتها من خطاطات الفعل؛ والخطأ شرط التعلم، إذ أن الخطأ هو فرصة وموقف من خلال تجاوزه يتم بناء المعرفة التي نعتبرها صحيحة؛
- الفهم شرط ضروري للتعلم؛ والتعلم يقترن بالتجربة وليس بالتلقين؛ التعلم هو تجاوز ونفي للإضطراب.
* النظرية البنائية في حقل التربية:
حسب بياجي:
- التعلم هو شكل من أشكال التكيف من حيث هو توازن بين استيعاب الوقائع ضمن نشاط الذات وتلاؤم خطاطات الاستيعاب مع الوقائع والمعطيات التجريبية باستمرار.
- فالتعلم هو سيرورة استيعاب الوقائع ذهنيا والتلاؤم معها في نفس الوقت.
- كما أنه وحسب النظرية البنائية مادام الذكاء العملي الإجرائي يسبق عند الطفل الذكاء الصوري النظري، فإنه لا يمكن بيداغوجيا بناء المفاهيم والعلاقات والتصورات والمعلومات ومنطق القضايا إلا بعد تقعيد هذه البناءات على أسس الذكاء الإجرائي.
وعليه، وحسب بياجي، يجب تبني الضوابط التالية في عملنا التربوي والتعليمي:
* جعل المتعلم يكون المفاهيم ويضبط العلاقات بين الظواهر بدل استقبالها عن طريق التلقين ؛
* جعل المتعلم يكتسب السيرورات الإجرائية للمواضيع قبل بنائها رمزيا؛
* جعل المتعلم يضبط بالمحسوس الأجسام والعلاقات الرياضية، ثم الانتقال به إلى تجريدها عن طريق الاستدلال الاستنباطي؛
- يجب تنمية السيرورات الاستدلالية الفرضية الاستنباطية الرياضية بشكل يوازي تطور المراحل النمائية لسنوات التمدرس؛
- إكساب المتعلم مناهج وطرائق التعامل مع المشكلات واتجاه المعرفة الاستكشافية عوض الاستظهار؛
- تدريب المتعلم على التعامل مع الخطأ كخطوة في اتجاه المعرفة الصحيحة؛ اكتساب المتعلم الاقتناع بأهمية التكوين الذاتي..
يمر منها النمو العقلي للفرد (نمو الذكاء بعبارة أخرى):
- في المرحلة الممتدة من الولادة إلى السنة الثانية:
نستطيع الحديث عن إمكانية " دعم " التعلم الحسي والحركي للرضيع، وذلك بوضعه في سياقات أو وضعيات " تعلمية "، تتضمن وسائل وأدوات يتوخى منها أن تعزز مختلف الأنشطة التنسيقية بين الحواس والحركات، أو بين الحركات نفسها، لما في ذلك من تـأثير إيجابي على مستوى تكوين الشيمات الحركية لديه Schèmes d'action ، وهي، حسب تعريف بياجي، نوع من الحركات المنسقة التي تختزن على مستوى الذاكرة الحسية الحركية، وتكون قابلة لأن يكررها الرضيع لمواجهة وضعيات متنوعة ومتشابهة في بعض العناصر.
كل الأنشطة التعليمية الخاصة بهذه المرحلة يجب أن تستهدف تعزيز ما يدعوه بياجي، بالذكاء الحسي - الحركي أو الذكاء العملي المعيش Vécu.
- أما المرحلة الممتدة من السنة الثانية إلى السنة السابعة أو الثامنة:
وهي التي تصادف مرحلة الذكاء ما قبل العملياتي Préopératoire أو ما قبل المفاهيمي Préconceptuelle، فإنها تستدعي كافة التعلمات المبتعدة عن التجريد (وليس التخييل)، والمقتصرة على وفرة الأنشطة الحركية القابلة للتحويل إلى تمثيلات لفظية وصور ذهنية (بداية اللغة والتفكير لدى الطفل).
لا ننسى هنا، كما ينبه إلى ذلك بياجي، أن الطفل لا يقوى؛ في هذه المرحلة؛ على تكوين ما يدعى بالمفاهيم Concepts (وهي عبارة عن فئات Classes مجردة تتكون من عناصر متشابهة على الأقل في خاصية واحدة، ويمكن أن يتعلق الأمر بأكثر من خاصية ...).
ولذلك فنحن، المربين، مدعوون إلى وضعه في إطار تعلمي من الأنشطة الحسية والحركية الـمصحوبة بالتعبير اللغوي الـمتنوع، وبالزيادة في حجم التبادل أو التداول التواصلي بين الأطفال، وفق أهداف تربوية مقصودة ومحددة.
- من السنة الثامنة إلى حوالي السنة الثانية عشرة من العمر:
يدخل ذكاء الطفل مرحلة مفاهيمية وعملياتية، ولكن، مع الارتباط الدائم بالموضوعات الملموسة أو المحسوسة Concrets.
آنذاك يصبح الطفل قادرا على تكوين وفهم أو بناء العديد من المفاهيم الرياضية (العدد مثلا) والمنطقية (علاقات، فئات) والفيزيائية (الحجم، الوزن، الكتلة...) والهندسية (الطول، العرض ...)، وهذه القدرة الذهنية تحتاج، مدرسيا، إلى برامج وتقنيات وأساليب خاصة لتفسح المجال للمتعلم، للتعامل المباشر مع الأشياء والموضوعات، وتنظيم تأثيراته وحركاته المختلفة على هذه الأشياء، وفق استراتيجيات مخططة وهادفة، بحيث تسهل بناء المفاهيم العلمية المنشودة، وتجعل أمر ممارسة الأنشطة أو العمليات الذهنية الناشئة، أمرا ميسورا ومطابقا لطبيعة البناءات المعرفية المطروحة للتعلم.
- المرحلة الرابعة هي المرحلة التي يكتمل فيها النمو العقلي للفرد، وتنطلق من السنة الثانية عشر إلى مرحلة الرشد، ويقصد بالاكتمال هنا، بلوغ ذكاء الفرد إلى تنظيم مجموع العمليات الرياضية والمنطقية في سياق بنية كلية أو شاملة، حيث تتفاعل وتتناسق ويعتمد بعضها على بعض، وهذه البنية هي ما يطلق عليها بياجي اسم (I.N.C.R ) التي تعني الهوية Identité والنفي Négation والارتباطية Corrélative والتبادلية Réciprocité.
نحن إذا، أمام فرد مراهق انفتحت أمامه آفاق ذهنية وعقلية هائلة، له استعداد، يتجاوز مجرد التعامل مع الملموس، بل يتعداه إلى معالجة الموضوعات المجردة، يمكنه الآن، مثلا، أن يضع مقدمات نظرية.
ويستخلص منها نتائج ضرورية ومنطقية، كما يمكن أن يفترض عبارات معينة ويشيد عليها بناءات فكرية أو معرفية ما ...
باختصار يصبح الشخص متمكنا من ممارسة التفكير على التفكير ذاته، أي التفكير الفرضي - الاستنتاجي.
هذه القدرات الفكرية تحتاج، تعليميا، إلى مجال أرحب لكي يتم تحيينها. ومن ذلك استخدام أساليب تعليمية مفتوحة، ووضعيات تعليمية دالة ومثيرة للتساؤل والبحث، إضافة إلى وسائل تعليمية متنوعة ومتصلة بالموضوعات التعليمية المختلفة.
4- التصور المعرفي للتعلم:
تعتبر المدرسة المعرفية في علم النفس من بين أحدث المدارس المعرفية التي حاولت أن تتجاوز بالخصوص بعض مواطن الضغط في المدرسة البنائية والسلوكية على السواء.
فإذا كانت السلوكية في نظرياتها حول التعلم ترى بأن التعلم هو تحويل سجل الاستجابات أو تغيير احتمالات إصدار استجابات هذا السجل تبعا لشروط معينة، حيث تحويل السلوك، المتمثل في تحسين الأداء واستقراره، لا يرجع إلى النضج النمائي، بل إلى فعل المحيط الخارجي وآثاره، والنمو ما هو إلا نتيجة آلية.
- وإذا كانت كذلك النظرية البنائية (التكوينية) مع بياجي ترى بأن النمو المعرفي هو عملية لبناء المعرفة يقوم فيها الطفل بدور نشيط من خلال تفاعله مع المحيط، لكن ما يحكم هذا النمو هي الميكانيزمات الداخلية للفرد، والتي لا تتأثر إلا في حدود نسبية جدا بالعوامل الخارجية، ويتحقق النمو عبر مراحل تدريجية متسلسلة وضرورية (النضج) في شكل بنيات معرفية أكثر فأكثر تجريدا، والتعلم يكون دائما تابعا للنمو،
فإن المدرسة المعرفية حاولت تجاوز كل:
من التكوينية /البنائية والسلوكية في إشكالية أسبقية الذات (النضج) أو الموضوع في عملية التعلم وبناء المعارف.
ومن أهم المبادئ المؤطرة لنظرية هذه المدرسة في التعلم والنمو نجد:
تعويض السلوك بالمعرفة كموضوع لعلم النفس، إذ ثم تجاوز المفهوم الكلاسيكي لعلم النفس كعلم للسلوك، يركز على دراسة السلوك كأنشطة حسية حركية خارجية والتي يمكن ملاحظتها موضوعيا وقياسها في إطار نظرية المثيرو الاستجابة وإقصاء الحالات الذهنية الداخلية، حيث أخذت الدراسات السيكولوجية الحديثة على عاتقها دراسة الحالات الذهبية للفرد، فأصبحت المعرفة هي الظاهرة السيكولوجية بامتياز، لأنها خاصة بالذهن إما كنشاط (إنتاج المعرفة واستعمالها) وإما كحالة ( بنية المعرفة ) فأصبح موضوع على النفس هو المعرفة عوض السلوك، وحيث إن المعرفة هي تمثل ذهني ذات طبيعة رمزية، أي حدث داخلي لا يمكن معاينته مباشرة ، بل يمكن الاستدلال عليه واستنباطه من خلال السلوك الخارجي اللفظي أو الحس- حركي.
كما أنه من الأفكار الأساسية لهذه المدرسة، كون التفاعل بين الفرد والمحيط - خصوصا أثناء التعلم- هو تفاعل متبادل، إذ أن السيكولوجيا المعرفية هي سيكولوجيا تفاعلية بالأساس، لأنها تجمع بين بنية للذات وبنية للواقع في عملية معالجة المعلومات، يحول بموجبها الإنسان/الفرد المعطيات الخارجية إلى رموز وتمثلات ذهنية، حيث إن الذهن أو المعرفة تتغير بالمحيط ولمحيط يتغير بالمعرفة، حيت ليس هناك معارف بدون سياق واقعي تنتج وتستعمل فيه، وليس هناك محيط بدون معارف تنظمه وتعطيه معنى (تدخل الذات).
وعليه، فإن التعلم والنمو، حسب الإصطلاح الكلاسيكي لعلم النفس، أصبح مع المدرسة المعرفية يسمى باكتساب المعارف، ويتلخص مفهومها للتعلم في:
- التعلم هو تغير للمعارف عوض تغير السلوك، أي سيرورة داخلية تحدث في ذهن الفرد؛
- التعلم هو نشاط ذهني يفترض عمليات الإدراك والفهم والإستنباط ؛
- التعلم لا يكمن فقط في إضافة معارف جديدة (الكم) بل كذلك في تشكيلها وتنظيمها وتشكيلها في بنيات (الكيف) من قبيل: الفئة، الخطاطة، النموذج الذهني، النظرية ...
- التعلم يكون تابعا للمعارف السابقة، لأنها تحدد ما يمكن أن يتعلمه الفرد لا حقا؛ التعلم هو نتيجة التفاعل المتبادل بين الفرد والمحيط، حيث المعرفة تتكون وتبنى بفضل نشاط الذات ونتيجة لهذا النشاط.